تحولات عالمية قادمة- من غزة إلى نظام دولي جديد متعدد الأقطاب

المؤلف: نبيل البكيري09.07.2025
تحولات عالمية قادمة- من غزة إلى نظام دولي جديد متعدد الأقطاب

يتفق كل من ابن خلدون وهيغل على فكرة جوهرية مفادها أن التاريخ الإنساني ما هو إلا مسيرة متدفقة من الأحداث، أشبه بنهر جارٍ لا يتوقف، وعملية ديناميكية مستمرة التطور عبر مراحل زمنية متباينة. هذه المسيرة تشكلها وتصوغها قوانين صارمة وأحداث فاصلة ذات طابع دراماتيكي مؤثر. يرى ابن خلدون هذه التجليات في إطار ما يسميه "دورة العمران البشري"، والتي تتأرجح بين البداوة والحضارة، بينما يفسرها هيغل بأنها تتجسد في العقل والروح الإنسانية المتعطشة للحرية، واللتان تعملان كمحركات دافعة في صناعة التاريخ الإنساني برمته.

في هذه الأيام، وفي خضم التطورات المتسارعة والتحولات العميقة التي يشهدها العالم من حولنا، وفي ضوء منظوري ابن خلدون وهيغل المتباينين، يثور تساؤل ملح: أين موقعنا تحديدًا في هذا التيار التاريخي المتدفق؟ وهل نحن على أعتاب مرحلة تاريخية جديدة آخذة في التشكل والتبلور، أم أننا لا نزال نسير في الدورة التاريخية الراهنة التي لم تكتمل فصولها بعد؟ وهل يحق لنا الحديث عن مرحلة آخذة في الأفول وأخرى قادمة تلوح في الأفق؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يحدث بالضبط في ظل وجود مؤشرات متعددة ومتنوعة تنبئ بتحولات جمة تلوح في الأفق القريب؟

تتراءى لنا في الأفق دلائل عديدة وجلية، تشير بوضوح إلى أن هذه اللحظة التاريخية تحمل في طياتها بذور تحولات كبرى، لا تقتصر آثارها على المنطقة فحسب، بل تمتد لتشمل العالم بأسره. هذا الأمر يضع عالمنا اليوم أمام منعطف تاريخي حاسم، يشبه إلى حد بعيد الأجواء التي سبقت نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945. تلك الحرب التي أسفرت عن نشوء نظام عالمي جديد، تجسد في ثلاث مؤسسات عالمية ذات نفوذ وسلطة، وهي: الأمم المتحدة، والبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي. وقد كانت زمام الأمور في تلك الحقبة بيد الإمبراطورية الأميركية، التي بزغت كقوة عظمى من رحم الحرب العالمية الثانية، لتتبوأ مكانة رائدة في النظام العالمي الجديد، كناشرة للديمقراطية وحامية للحرية وحقوق الإنسان.

الولايات المتحدة الأميركية، التي احتفظت بموقع القيادة في النظام العالمي الجديد لأكثر من نصف قرن، خلال مرحلتيه؛ القطبية الثنائية والأحادية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1990، تشهد اليوم تراجعًا ملحوظًا على مختلف الأصعدة. يأتي هذا التراجع في ظل صعود قوى منافسة جديدة، اقتصاديًا وعسكريًا، مثل الصين وروسيا والهند، وغيرها من الدول الصاعدة التي تسعى إلى مزاحمة النفوذ الأميركي.

لكن الأمر الأكثر خطورة يتمثل في أن تراجع الولايات المتحدة عن موقع الصدارة العالمية لا يقتصر على مجرد ظهور منافسين جدد، بل يتعداه إلى بروز تيار فكري واسع النطاق داخل منظومة الثقافة الغربية الأميركية تحديدًا. هذا التيار، الذي بدأت أصوات منظريه تعلو وتتجلى على أرض الواقع كأيديولوجيا متكاملة، يحمل تصورات ورؤى خاصة، ويُعرف باسم "التنوير المظلم" Black- Enlightment، لصاحبه كورتيس يارفين، المعروف بمنسيوس مولدباغ.

لقد باتت أفكار هذا الرجل وتياره المعروف بـ "النيوريفليكشن"، الذي يعادي كل قيم الحداثة السياسية الغربية، وفي مقدمتها المساواة والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، تحظى بأنصار ومؤيدين ليسوا مجرد أفراد عاديين، وإنما رموز وقيادات عالمية بارزة تتصدر اليوم مواقع صنع القرار في أهم وأكبر دولة في العالم، والمتمثلة في الولايات المتحدة الأميركية، التي تتزعم العالم الحر. هذه الدولة، التي تسير اليوم بخطى متسارعة نحو التنكر لقيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان التي طالما دعت إليها.

لم تعد أفكار ما يُسمى بالتنوير المظلم مجرد أفكار مجردة تتردد في الفضاء أو تُخطّ على صفحات المدونات، بل تحولت إلى واقع ملموس نراه بأعيننا اليوم. يتجلى هذا الواقع في الحرب على غزة، التي تُعد الأقذر والأبشع من بين كل الحروب التي شهدتها البشرية حتى الآن. هذه الحرب، التي تجاوزت كل القوانين والأعراف والمنظومات الأخلاقية البشرية والدينية المعترف بها، كشفت عن عالم جديد يتسم بمزيد من التوحش والعنف والفوضى، ويتلاشى فيه كل أثر للقيم الإنسانية ومنظومته الأخلاقية والقانونية والسياسية.

كشفت عملية "طوفان الأقصى" وسياقاتها وتداعياتها عن مؤشرات متعددة، من بينها سقوط الشعارات البراقة التي يرفعها الغرب عن حقوق الإنسان، والديمقراطية، والعدالة، والمساواة. هذا بالإضافة إلى صعود ترامب واحتمالية عودته إلى البيت الأبيض مجددًا بأجندات أقرب ما تكون إلى انقلاب على كل القيم التي كانت ترفعها أميركا بصفتها راعية للنظام العالمي. وقد تجلى ذلك في التوجهات الأميركية الواضحة لإدارة ترامب، وخاصة فيما يتعلق بالملف الاقتصادي العالمي، وفي القلب منه فرض الرسوم الجمركية العالية على جميع الدول، وفي مقدمتها الصين، التي تُعد أكبر مُصدّر للسلع في العالم، والتي تتجاوز قيمة صادراتها 3.5 تريليونات دولار سنويًا، في حين يبلغ العجز في الميزان التجاري الأميركي الصيني 295 مليار دولار لصالح الأخيرة.

تشير كل هذه المؤشرات في السياسات الدولية إلى تحولات كبيرة ربما تنتظر العالم، في ضوء الصعود الصيني اللافت اقتصاديًا على الأقل. فالاقتصاد يمثل عصب التحولات الكبرى التي دفعت بالولايات المتحدة إلى قيادة النظام العالمي الذي تشكل عقب الحرب العالمية الثانية. والاقتصاد نفسه هو ربما ما يهيئ الصين اليوم للعب دور كبير في تحولات المشهد الدولي الراهن، والتي قد تقود نحو نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، بدأت أولى مؤشراته بالمعركة الاقتصادية المحتدمة بين الولايات المتحدة والصين، ومن خلف كل منهما العالم أجمع.

ومن ملامح هذا التحول العالمي، ما نلاحظه من خلال عدة مؤشرات، يأتي في مقدمتها النمو الاقتصادي المطرد والتنافس التكنولوجي المحتدم، بالإضافة إلى بؤر الصراعات المتفجرة حول العالم التي عجزت القوى الدولية عن إيقافها أو تحقيق أي انتصار حاسم فيها. إضافة إلى ذلك، نشهد تشكل تكتلات سياسية واقتصادية جديدة، مثل منظمة شنغهاي للتعاون الدولي، ومنظمة البريكس التي تستحوذ على ما يقارب 37% من حجم الاقتصاد العالمي. وغيرها من المؤشرات التي تطفو على سطح المشهد الدولي كقوى فاعلة تقود العالم حتمًا نحو التحول نحو نظام عالمي جديد خالٍ من الهيمنة والانفراد لأي قوة دون الأخرى.

لكن الأمر الأكثر خطورة في ملامح ومظاهر هذا التحول الدولي المرتقب، والذي حتمًا لن يكون تحولًا فجائيًا وليد اللحظة، وإنما هو مسار طويل قد يستغرق عقدًا أو حتى عقدين من الزمن، هو أن ثمة مسارًا فكريًا بدأ بالتعبير عن رفضه القاطع لكل أشكال الحداثة السياسية التي حققتها البشرية على مدى القرنين الماضيين، كالدولة الوطنية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعدالة، والمساواة، والحرية. ويرى أصحاب هذا المسار أن هذه العناوين لم تعد صالحة لزماننا هذا، وأن العالم يجب أن يتجه نحو شكل جديد ومختلف من الأنظمة والسياسات السلطوية، التي تعلي من شأن الفائدة والمنفعة والمصلحة المجردة، ولو كان ذلك على حساب الإنسان وكرامته وحقوقه الأساسية.

ختامًا، إن ما يجري اليوم على الساحة الدولية من صراع يتجسد في صورة رفع الرسوم الجمركية بين القوتين الاقتصاديتين الكبيرتين، أميركا والصين، ليس سوى قمة جبل الجليد، تخفي وراءها تغيرات دولية كبيرة بدأت تتبلور وتتركز في العديد من القضايا حول العالم، وفي قلبها قضية غزة، والعديد من الملفات الأخرى الملتهبة.

وهو مؤشر جلي على ما آل إليه المشهد الدولي الراهن في ظل صعود موجات الشعبوية والقومية، وتراجع زخم النخبوية وأفكارها الإنسانية الحداثوية التي تعلي من قيم الإنسان وحقوقه وحرياته وكرامته كمواطن عالمي أينما كان موقعه على هذا الكوكب. وهو ما قد يجعل مثل هذه التصورات مجرد حلم أو ضرب من الخيال لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع، في ضوء صعود الشعبوية في صيغتها الترامبية الراهنة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة